امتدادا للاتجاهات العامة التي تضمنها إعلان عدن السياسي الذي صدر في
أوائل ابريل الماضي والمضامين المشمولة في مشروع وثيقة الحوار الوطني
الجنوبي_الجنوبي الصادرة في مدينه عدن في مايو المنصرم,نظم منتدى عدن
للفكر والثقافة سلسله من الحوارات الداخلية بين أبناء الجنوب شملت العديد
من الشرائح الاجتماعية من المنشغلين في حقل الفكر والسياسة ونشطا الحراك
السلمي الجنوبي وشخصيات من منظمات المجتمع المدني وبعض الشخصيات العامة
في محاوله للوصول إلى تشخيص حقيقي لواقع الحالة السياسية القائمة التي
حكمت العلاقة بين دولتي اليمن ووضع تصورات لخرائط حل يفضي إلى استعاده
التوازن وتحقيق الأمن والاستقرار في هده المنطقة الحساسة من العالم.
و لأهمية ذلك وأهميه مآتم التوصل إليه من نتائج قام المنتدى بصياغة ملخصا
لها في الموضوع الموسوم للحالة السياسية القائمة بين دولتي (ج ي د ش)و(ج
ع ي) منطلقا (التشخيص وخرائط الحل) ويضعه للنشر إسهاما من المنتدى في
بلوره اتجاهات وأسس للخروج من وضعه بأنها الأخطر والأكثر تعقيدا تشهدها
المنطقة في تاريخها السياسي المعاصر.
الحالة السياسية القائمة بين دولتي ج.ي.د.ش و ج.ع.ي:
منطلقات التشخيص وخرائط الحل
تعود الجذور الأولى لنشؤ الوضع السياسي الغير طبيعي القائم في العلاقة
بين دولتي الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية
إلى الأسس الأيديولوجية الزائفة وما ابتنى عليها من سياسات زيفت الحقائق
واحدثت تشوش خطير في وعي الذات الوطنية لدى شعبي الدولتين، حين كرست
العملية التعليمية والتربوية وآلة الدعاية والإعلام في الدولتين كل جهدها
لبناء وعي أيديولوجي زائف يقوم على أنكار حقيقة وجود الشعبين ودولتيهما
وجود فعلي قائم، أثمرته مسيرة تاريخية تمتد إلى الآف السنين، وتكريس بدلا
عن ذلك وهم الواحدية اليمنية، مع إظهار براعة واضحة في توظيف هذا الوهم
بحسب الأطماع والأهداف التي يسعى لتحقيقها كل من الطرفين، وبرغم اختلاف
الأهداف والأطماع التوسعية لكل منهما، لكنهما اجمعا على وسيلة واحدة؛
فشعار " الواحدية اليمنية" الوهم بالنسبة لكل منهما مثل حصان طروادة
لتحقيق الغايات والأهداف الغير معلنة التي يضمرها كل طرف تجاه الآخر،
للشمال اطماع توسعية في الجغرافيا، ولهذا كرس حديثه عن الشمال الأصل
والجنوب الفرع ووجوب عودة الفرع للأصل، وتحت يافطة عودة الفرع للأصل خاضت
الجمهورية العربية اليمنية حرب 1972م ضد دولة جمهورية اليمن الديمقراطية
الشعبية، فيما كانت الأطماع الأيديولوجية بتوسيع رقعة النفوذ الاشتراكي
تحرك علاقة الدولة الجنوبية بدولة الشمال، فقامت بحرب على الشمال في1979م
بغية إسقاط النظام السياسي هناك وإقامة نظام يتبنى الاشتراكية عوضًا عنه،
الأمر الذي سيسمح حينها للدولتين بإقامة دولة اشتراكية موحدة على كامل
الامتداد الجغرافي للدولتين، حدث كل ذلك تحت الغطاء الوهم " الواحدية
اليمنية ".
ان ازمة مفهوم ونهج" الواحدية اليمنية " هي أزمة الواحديات كلها التي
لاتعترف بمكوناتها، بل وتعمل على إلغائها وغاب عنها أن الشيء حين يقدم
على إلغاء مكوناته فهو يلغي نفسه، كان ذلك سببًا في فشل المشروع القومي
العربي الذي تحدث عن الأمة وأنكر وجود الشعوب المكونة للأمة، وتكرر الفشل
اياه وللأسباب ذاتها مع العديد من المشاريع الأيديولوجية ذات الطبيعة
الأممية انها أزمة الأيديولوجيات على اختلافها التي عادة ما توصف
بالعابرة للحدود، ومن هنا طابعها المناهض لمنطق الحق لأن الحدود تشير إلى
التمايز وما يتمخض عنه من تنوع وتحديد واضح للحق واقتسام الحقوق بين
البشر على امتداد الأرض كلها.
للإنسانية بناء هرمي بمكونات محكومة بنظام له حلقاته رغم الحديث عن
الوحدة الإنسانية. فلا نستطيع الحديث عن الإنسانية بدون الأمم المكونة
لها ولا عن أمم بدون شعوبها ولا عن شعوب بدون مواطنين.
تحت وهم " الواحدية اليمنية " المرتبط ارتباطا وثيقـًا بوهم الواحديات
كلها، وبرغم انهيار الأيديولوجيات ونظامها على الصعيد الدولي، وظهور حاجة
العودة إلى الحق والاعتراف بحدوده والتخلي طبقـًا لذلك عن الاوهام
واعتراف الشعبين ودولتيهما ببعضهما البعض دولتان كاملتي السيادة، برغم كل
ذلك مضى الطرفان في الإعلان عن ما اسموه "الوحدة اليمنية " في مايو 1990م
تزامنًا في العام ذاته الذي سجل فيه انهيار النظام الدولي القائم على
الانقسام الأيديولوجي. كان إعلان واحد بأهداف وغايات مختلفة " مضمرة"
إعلان حمل في جوفه كل أسباب فشله وانهياره، إعلان لم تكن منطلقاته حاجة
ومصالح شعبي الدولتين، بل كان يخفي في ثناياه اطماع وأهداف متناقضة تخص
كل طرف بذاته وتتقاطع على الأغلب مع رغبات ومصالح الأطراف الكبرى في
المعادلة الدولية، ما يعني انه جاء لتلبية حاجة خارجية أكثر مما هو تلبية
لمصالح الشعبين والدولتين.
بالمحصلة النهائية نجد انفسنا ونحن نتعامل مع مسار غريب قاد البلدين
بالاتجاه المعاكس لحركة التاريخ محدثا تصادم بين المسارات نتج عنه افعال
وكوارث مدمرة يمكن حصرها بما يلي:
أولا: وقوع الدولتين في شباك الاستقطاب الدولي وتبنيهما ايديولوجيات
ابتنت عليها سياسات قادت كل منهما إلى صراعات وانقسامات الحقت اضرار
خطيرة بالوحدة الوطنية في كل من الدولتين. ان تلك الاضرار الكارثية التي
حدثت في كلا الدولتين تعد ثمرة طبيعية لما يمكن تسميته الوقوع في فخ
الأيديولوجيا.
ثانيا: نتج عن الفخ الأول فخ آخر هو فخ ما اسمي بالوحدة؛ فالوحدة مفهوم
وفعل سياسي هي امتداد لأيديولوجية الواحدية اليمنية الوهم، حيث تم
الإعلان الاتحادي في مايو 1990م بين دولتين الوحدة الوطنية في كل منهما
مدمرة، تقودها أنظمة سياسية غير ديمقراطية ولا تحضى بدعم وتأييد شعوبها،
اقتصاداتها هشة؛ فتحول الإعلان إلى إعلان لإلغاء الدولتين وإلغاء شعوبها
وإقامة على انقاضها كيان هش، أسس لكل هذه الازمات والحروب والفوضى، كيان
اقدم على تفكيك وإلغاء اجزائه، وبتفكيكها انهار التوازن وانهار النظام
الذي كان سيحفظ لهذا الكيان أسباب الكينونة والاستقرار وكانت النتيجة
الفشل والانهيار وإحلال الفوضى محل النظام، والاضطراب محل الاستقرار.
ثالثا: ثم تفرع عن افخاخ الأيديولوجيا والوحدة فخ ثالث هو فخ الديمقراطية
المزيفة-ديمقراطية الغلبة العددية التي شكلت لب دستور الإعلان الاتحادي
بين قيادتي البلدين، الديمقراطية التي اخرجت الجنوب شعب ودولة عن معادلة
التوازن والشراكة من لحظة التوقيع على الدستور الذي اعطى للجنوب خمس
مقاعد البرلمان مقابل أربعة اخماس للشمال، الديمقراطية التي جرى تصميمها
على منطق الواحدية اليمنية والغلبة العددية وفكرة عودة الفرع للأصل
(الجنوب الأقل عددًا للشمال الأكثر عددًا)، تحولت إلى ديمقراطية الغاء
واقصاء للجنوب؛ ديمقراطية ظم والحاق دولة كاملة السيادة إلى أراضي ونفوذ
دولة أخرى، وعندما حاول الجنوب الاعتراض على ذلك وتصحيح الوضع اعلنت عليه
الحرب لفرضها عليه بالقوة، وتم التعامل مع اعتراضات الجنوب حينها بأنه
خروج وتمرد على الشرعية الدستورية وخاضوا الحرب على الجنوب في 1994م تحت
غطاء ما اسموه بالشرعية الدستورية الوهمية. ولاننسى أن الدستور أعد تحت
أوهام الأيديولوجيا وفكرة الواحدية اليمنية التي هي فكرة أيديولوجية صرفة
لا صله لها بالحق والواقع الحقيقي المتعامل معه المتمثل بواقع الشعبين
ودوليتهما.
هنا ينبغي عدم اغفال البعد الخارجي، باعتبار أن الدولتين لم يكن أي منهما
مستقل في سياساته وافعاله، لقد كانت الدولتان تشكلا أجزاء أو حلقات تابعة
لأقطاب المعادلة الدولية التي انتهت بهزيمة القطب الذي تتبعه دولة الجنوب
وانتصار للقطب الآخر الذي تتبعه دولة الشمال، لينتج عن ذلك إن الإعلان عن
ما اسمي بالوحدة في مايو 1990م مثل امتدادًا طبيعيًا للنتيجة العامة التي
انتهت إليها معادلة الانقسام الدولي على الصعيد العالمي، فسجلت ما اسمي
بالوحدة انتصارًا مؤقتًا للشمال وهزيمة مؤقتة للجنوب، الأمر الذي ادركه
نظام صنعاء وأدرك أنه نجح في توظيف تحالفاته الدولية وسخرها لخدمة اطماعه
تجاه الجنوب، حيث نظر نظام صنعاء إلى إسقاط الجنوب ووقوعه تحت قبضته بانه
ثمرة من ثمرات التحالف الدولي المناهض للشيوعية الذي كان نظام صنعاء جزء
منه وإن موضوع" الوحدة" لم تكن إلا عنوان يموه به على كل هذه الأهداف
الخفية.
لقد اغراه ذلك النجاح وأراد يكرر المدخل ذاته في تأمين استمرار سيطرته
على الجنوب، ولكن هذه المرة عن طريق اللعب بورقة الارهاب والدخول في
التحالف الدولي المناهض للإرهاب وحول حلفاء الأمس الذين شكلوا رأس حربة
اجتياحه للجنوب عام 1994م لأسقاط آخر قلاع الشيوعية، كما يدعون إلى أعداء
اليوم على الأقل صوريًا لأن كل المعطيات تبين بالقطع استمرار ارتباطه بهم
حتى اليوم وما يحدث في محافظة أبين يقدم البراهين القطعية لارتباط
المجاميع المحسوبة على الارهاب بنظام صنعاء، حيث عمل على تطويع حلفائه
السابقين وتجنيد مجاميع أخرى وزج بهم في بعض مناطق الجنوب وروج انتسابهم
للقاعدة وحاول ربط تصعيد افعالها وظهورها الإعلامي تزامنًا مع زيادة
تصاعد ثورة الجنوب الرامية إلى استعادة الحق الجنوبي وإنهاء السيطرة
الشمالية على أراضيه، فأراد نظام صنعاء بذلك ان يقمع الجنوب والتصدي
لمطالبه تحت غطاء الحرب على الارهاب، ولأنه يدرك أن قوته تكمن في
تحالفاته الخارجية، فقد أراد أيضا تضليل وتوريط الخارج وجره إلى التحالف
معه ضد مطالب الشعب الجنوبي بإظهار الجنوب امام العالم بمظهر البيئة
الحاضنة للإرهاب وبالتالي التشويش على عدالة قضيته.
أن المسار العام للتاريخ وما نتج عنه من تشكل للتنظيم البنائي الإنساني
محكوم بمنطق الترابط الوثيق بين ثلاثية الحق والقوة والعدالة، حلقات ثلاث
شكلت مراحل ثلاث تؤلف بمجموعها مسيرة التطور التاريخي للحضارة البشرية،
هذا القانون العام الذي يحكم المسار العام للتاريخ ساسه الحق وأعمدته
القوة وسقفه العدالة، كل ذلك يعني ان المرحلة الأولى من مسيرة التاريخ
البشري تركزت على بناء الأساس الذي قام عليه البنيان الإنساني اللاحق،
لقد شكلت نتائجها قاعدة الهرم البنائي للإنسانية. لقد انتهت بتحديد الحق
واقتسام السيادات على أقاليم الأرض وتشكلت البنية الشعوبية للإنسانية
كتعبير عن الحق واقتسام السيادات على أقاليم الأرض بين الشعوب. كان ذلك
الانجاز تتويجًا لمرحلة تاريخية طويلة يتفاخر البشر بإنجازها، وبإنجازها
انتقلت البشرية إلى عصر التحضر والحضارة.
في العصر الحديث وبعد مسيرة وخبرة تاريخية طويلة أدركت الإنسانية هذه
الحقيقة واعترفت الشعوب ببعضها البعض وبحق سيادة الشعوب كل إقليمه
الجغرافي وترتيبًا على ذلك حقها في تقرير المصير، وقامت الدول الوطنية
(القطرية) الكاملة السيادة لتشكل بذلك الأساس الحق الذي يقوم عليه النظام
الدولي، محكومًا بمبدأي حق السيادة وحق تقرير المصير اللذان شكلا جوهر
ومضمون القانون الدولي. هذه المرحلة أنجزت وشكلت نتائجها ثوابت الحق
الغير قابلة للتصرف ، هكذا ثبتت في القانون الدولي وتعبيرًا عن ذلك قامت
مؤسسات الشرعية الدولية.
اما المرحلة الثانية من التاريخ الإنساني- مرحلة ما بات يعرف بالحداثة،
فقضيتها المحورية تتركز حول بناء القوة وهدفها بالإضافة إلى تلبية
متطلبات الحق بناء توازن قوى دولي يحفظ الحق ويؤمن الاستقرار وتحقيق
العدالة على الصعيد العالمي كله. بهذه المرحلة يرتبط بناء الأمم
واتحاداتها السياسية كخطوة ضرورية لبناء نظام العدالة الدولية (المرحلة
الثالثة في مسيرة التاريخ البشري) وهو نظام سيظل غاية ومسعى إنساني
مفتوح. اما اليوم فإن المسار العام للتاريخ يتركز على القضايا الكبرى
المرتبطة بالمرحلة الثانية ونخص بالذكر قضايا القوة وتوازن القوى
وتكويناتها البنائية المتمثلة بالأمم واتحاداتها السياسية.
تمثل هذه المرحلة بكل قضاياها الكبرى امتدادًا تطوريًا للمرحلة السابقة
لها ولا تأتي على انقاضها تفرضها حاجة التطور الاقتصادي والسياسي والأمني
للشعوب ودولها الوطنية، وبالتالي فإن هذه التكتلات الكبرى او الاتحادات
السياسية هي تكتلات واتحادات بين شعوب ودول تدفعها إلى ذلك حاجة التوازن
القادر على تأمين حقوقها السيادية كل على إقليمه الجغرافي وتأمين حريتها
واستقلالها وتحقيق اكبر قدر من التعاون والتكامل الاقتصادي والأمني، اما
إذا أقدمت التكتلات على إلغاء مكوناتها وألغت سيادتها وحريتها وأمنها،
تكون بذلك قد قضت على كل أسباب وجودها ( وهذا ما حدث بالضبط وللآسف في
الحالة السياسية القائمة بين دولتي اليمن).
ان جوهر المشكلة القائمة في العلاقة بين دولتي (ج.ي.د.ش) و (ج.ع.ي) يكمن
في كونهما اتجها في مشروعهما الاتحادي صوب إلغاء ثوابت الحق، المنجز
الأكبر للمرحلة الأولى من التطور التاريخي الإنساني ونقصد بذلك ما أنجزته
من تكوينات بنائية شعوب ودول وطنية عبرت عن ثوابت الحق : سيادة وانتماء
وهوية لكل من الشعبين. وبهذه الخطوة سارت الدولتان في الاتجاه المعاكس
لحركة التاريخ وأقدمت بذلك على إلغاء ما أفضت إليه مسارات تمتد إلى آلاف
السنين من نتائج بقرار سياسي اتخذته قيادة الدولتين فاصطدم بالواقع
ورفضه. وبالنتيجة حدث تفكيك الوحدة الطبيعية لكل شعب في كلا الدولتين،
تدمير وإلغاء الدولتين، وفشل وانهيار المشروع الاتحادي الذي أريد له أن
يكون بديلا، ما يعني أن الفشل هنا كان شاملا:
1- تدمير الوحدة الطبيعية لكل شعب في كل من الشمال والجنوب.
2- تدمير وإلغاء الدولتين القطريتين.
3- فشل المحاولة التي كان ينبغي أن تقدم نموذج لبناء اتحاد اقليمي أوسع وأشمل.
4- فشل في مشروع التحول الديمقراطي.
5- فشل في تطبيق مضامين القانون الدولي بما يحتويه من ضوابط تحفظ ثوابت
الحق وتنظم العلاقة بين الدول.
يعود كل ذلك إلى نشؤ حالة غير طبيعية انتجتها الأفكار والسياسات الخاطئة
خرج فيها التابع عن المتبوع، الفرع عن الأصل، خروج القوة عن مدار الحق.
فالحق هو الأصل والقوة تابعة له، فهي الحلقة المعنية بحمايته وحفظه
وتلبية متطلبات وجود وبقاء اطرافه ما يعني أنها تابعة ومأمورة لأطراف
الحق وهم هنا الشعبان ودولتيهما اما الاتحاد بينهما فهو البناء الذي
يفترض فيه ان يعبر عن القوة. تنتمي حلقة الشعبين ودولتيهما إلى المرحلة
الأولى في مسيرة التاريخ البشري (المرحلة الطبيعية) فيما تنتمي حلقة
الاتحاد بينهما إلى المرحلة الثانية (مرحلة الحداثة)، مرحلة بناء الأمة
واتحادها السياسي. ان ثمرات المرحلة الأولى الشعبان ودولتيهما تمثل ثوابت
حق والثانية تمليها ضرورة بناء القوة اللازمة لتأمين الحق. من هنا تظهر
على نحو واضح تبعية الاتحاد لأجزائه، فوظيفته تأمين كل أسباب الوجود
والبقاء لأجزائه وإذا خرج عن هذه الوظيفة فقد برر وجوده. وما حدث في
الحالة السياسية القائمة على النقيض تمامًا مما كان يجب ان يكون. حيث لم
يتم البناء على ما تم انجازه في المرحلة الأولى عند الشروع في بناء
المرحلة الثانية، بل على العكس تركزت الخطوات على تدمير ثمرات المرحلة
الأولى ووظفت القوة للتخلص من ثوابت الحق فخرجت عن مدارها واحداث كل هذا
الخراب والدمار والفوضى وفقدت شرعية وجودها.
مما تم عرضه بات واضحًا ان الحديث يدور عن ثلاث خرائط:
1-أولها الخارطة الطبيعية: خارطة الواقع الحقيقي كما شكلتها مسارات
التاريخ الطبيعي لشعوب جنوب الجزيرة العربية. تحددت فيها على نحو واضح
حدود اقتسام الحق السيادي على اقاليم الأرض في منطقة جنوب الجزيرة
العربية. فاطراف الحق هنا شعبان ودولتان بسيادة كاملة كل على اقليمه
الجغرافي تتجاور مع بقية شعوب جنوب الجزيرة العربية الأخرى؛ عمان
والإمارات العربية المتحدة واجزاء واسعة من أراض المملكة العربية
السعودية، تمثل هذه الخارطة خارطة ثوابت الحق المعروفة والمعترف بها التي
يجب أن تسود ومن غير المسموح لأي كان العبث فيها؛ فهي ثوابت حق غير قابلة
للتصرف، حق تتوارثه الأجيال المتعاقبة من أبناء واحفاد هذه الشعوب ما
بقيت الحياة على الأرض.
2-اما الخارطة الثانية: فهي خارطة العلاقة القائمة بهذه الثوابت-العلاقة
الخطاء التي ابتنت على صياغة ثوابت اخرى بديلة لا صلة لها بالواقع
الحقيقي، تتجاهل ثوابت الحق وتقوم على الوهم، عناوينها أيديولوجية
الواحدية اليمنية، الوحدة اليمنية التي ابتنت عليها، وديمقراطية الغلبة
العددية القائمة على هندسة فعل أيديولوجي إقصائي خطير خلفيته الرغبة في
تحقيق فكرة الواحدية اليمنية بوحدة أطلقوا عليها " إعادة ضم الفرع إلى
أصله ". هذه الخارطة أنتجت حالة الفشل الشامل والانهيار والفوضى العارمة
التي تسود اليوم وتنذر بالانزلاق نحو ماهو أخطر وتفتح الأبواب لشتى أنواع
التدخلات الخارجية.
3- خارطة العلاقة الصحيحة بثوابت الحق-الخارطة التي ينبغي ان تقوم على
إلغاء الخارطة الخطاء(الثانية) وتنطلق من الاعتراف بثوابت الحق- ثوابت
الشعبين ودولتيهما وتعيد رسم العلاقة بينهما بما يلبي متطلبات الحق
بأبعاده المحلية والإقليمية والدولية وما سينتج عن ذلك من استعادة
للتوازن المسئول عن حفظ استقرار وأمن المنطقة وجوارها الإقليمي ومتطلبات
الأمن الدولي في هذه المنطقة.
أن الاعتراف بثوابت الحلقة الأولى بما أفضت إليه من تكوينات شعوبية ودول
وطنية وترتيبًا على ذلك اعتراف الدولتين ببعضها البعض والشروع في إعادة
البناء المؤسسي للدولتين والتأسيس لمسار جديد للعلاقة بينهما وتصحيح
النظر إلى خطوة 22 مايو واعتبارها محاولة تنتمي إلى الحلقة الثانية –
حلقة الأمة واتحادها السياسي الكبير (الاتحاد العربي) والتخلي عن مفهوم
الواحدية اليمنية المناهض للحق والعلم والتاريخ. الاعتراف بهذه الحقيقة
والعمل طبقا لمضامينها يمثل إعادة اعتبار للحق وأصحاب الحق، إعادة اعتبار
للتاريخ وأساس لخرائط الحل وبناء أسس متينة لبناء المستقبل الآمن
والمستقر.
لا تشكل دولتي الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية
الشعبية استثناء في النظام الطبيعي الذي تقوم عليه شعوب الأرض ولا في
النظام الدولي، فهي أجزاء في هذا النظام، يسري عليها ما يسري على كل
أجزاءه طبقا لذلك ولكل ما سبق بيانه تظهر الحاجة إلى ضرورة الإحاطة بكل
الأبعاد المحلية ولإقليمية والدولية في خرائط الحل المطرحة للنقاش. فلا
نستطيع الذهاب بعيدًا في وضع تصورات الحل، فنحن محكومون بمفاهيم وثوابت
حق السيادة وحق تقرير المصير وبروابطنا الإقليمية والدولية. نحن أجزاء في
النظام الإقليمي مثلما نحن كذلك في النظام الدولي بما يعنيه ذلك من ضرورة
التقيد والالتزام بقواعد القانون الدولي.
تأسيسًا على ذلك أصبح من الضروري التأكيد على عدد من المسلمات المطلوب
الإقرار بها كأساس لخارطة الخروج من المشكلة:
أولا: التخلي عن الأفكار والمعتقدات الأيديولوجية الخاطئة وما ابتنى
عليها من سياسات والاعتراف بفشلها وبفشل كل ما ابتنى عليها بما فيها فشل
ما اسمي بالوحدة اليمنية.
ثانيا:الاعتراف بالنتائج المشمولة في الحلقة الأولى والنظر إليها
باعتبارها ثوابت حق غير قابلة للتصرف بالإلغاء او التعديل أو ما شابه ذلك
(الشعوب بحدودها السيادية ودولها الوطنية).
ثالثا: الشروع الفوري بإعادة بناء الوحدة الوطنية لكل شعب من الشعبين
وإصلاح التفكك والتدمير الذي لحق بها وإعادة بناء الدولتين ومؤسساتها.
رابعا: اعتراف الدولتين ببعضها دول كاملة السيادة وتوقيع اتفاقية الحدود
الدولية بينها على غرار خطوات تصحيح العلاقات التي تمت بين سوريا ولبنان
وفي الحالة العراقية-الكويتية.
خامسا: تصحيح العلاقات بين الدولتين وإعادة وضع المشروع الاتحادي بينهما
في إطاره الإقليمي العربي والنظر إليه بوصفه مقدمة لاتحاد عربي أوسع
واعتباره اتحاد دول ويفضل أن يأخذ بتسمية الاتحاد العربي فهو اتحاد ينتمي
إلى حلقة الأمة (الحلقة الوسطى في السلم البنائي للهرم الإنساني) وينبغي
ان يسمى باسمها وجعله مفتوحًا لانضمام دول عربية أخرى عبر مسيرة تدرجية
والعمل على إعادة إعلان الاتحاد بين الدولتين على هذا الأساس، بحيث يأتي
كنتيجة للحوار بين الطرفين.
سادسا: تحديد شروط الاتحاد بالتوافق بين أطرافه وبالتشاور مع الدول
العربية الأخرى والجامعة العربية، وجعلها مهام لمرحلة انتقالية تنتهي
بانتهاء تحقيق شروطها وبسقف زمني متفق عليه.
سابعا: تترك المسائل المرتبطة ببناء الاتحاد ومؤسساته وطرق إدارته للحوار
بين الطرفين.
عرف التاريخ ثلاثة أنماط من البناء السياسي:بنائين منها عبرت عن ثوابت
الحق وأطرافه وتنتمي إلى منجزات الحلقة الأولى ( الدولة البسيطة والدولة
الاتحادية)، فيما عبر النمط الثالث (اتحاد الدول) عن القوة التي تتبع
الحق ولا تطغى عليه ما يعني إن مسمى الدولة الاتحادية ينظر إليه بوصفه
إصلاح بنيوي داخل الدولة الواحدة وخطورة الأخذ به حلا للحالة القائمة
تكمن في أنه لا يلبي الالتزام بالوضع الحقوقي والقانوني للجنوب بصفته
الاعتبارية شعب ودولة الذي ارتبط به الاعتراف الدولي بشعب ودولة الجنوب،
سيادة وحق تقرير المصير وما ابتنى على ذلك من قرارات دولية صدرت بشأن
الحالة القائمة.
لهذه الاعتبارات ينبغي التأكيد بأن مصنف ومسمى اتحاد الدول (الاتحاد
العربي، اتحاد جنوب الجزيرة العربية) هو المسمى الصحيح الذي ينهي الإلغاء
ويعيد بناء المعادلة المدمرة التي تحمي ثوابت الحق باعتبار أن على المسمى
وصفته تتحدد الحقوق، هل نحن شعب ودولة أم نحن جزء من شعب ودولة أخرى؟ هل
علاقتنا ببعضنا علاقة فرع وأصل ام نحن جزاءان سياديان ندان في كلّ إقليمي
ودولي؟ هذا المسمى يثبت الحلقة الأولى (حلقة الشعبين والدولتين) وينقل
المعالجة إلى موقعها الطبيعي في الحلقة الوسطى (حلقة الأمة واتجاها
السياسي في المستوى الإقليمي).
ولمزيد من التوضيح عن اختلاف المفهومين" الدولة الاتحادية " و " اتحاد
الدول" نذكر بأن الدولة الاتحادية ظاهرة تاريخية أثمرتها تحالفات الشعوب
المستعبدة من قبل الإمبراطوريات ارتبطت بمرحلة تاريخية محددة وأملتها
ضرورات اللحظة التاريخية لحظة المواجهة بين الشعوب المستعبدة والنظم
الإمبراطورية. على سبيل المثال خرجت العديد من شعوب أوروبا من رحم
الإمبراطورية الرومانية واضطرت لإقامة عدد من التكتلات التحالفية لمقاومة
هيمنة الإمبراطورية فأفضت تلك التحالفات إلى نشؤ عدد من الأمم ودولها
الاتحادية مثل الأمة الألمانية، الإيطالية، الإنجليزية والأمة
الفرنسية.حيث حملت تلك الدول صفة الاتحادية ما عدى فرنسا منذ لحظة
ولادتها، ما يعني ان الاتفاق على الشكل الاتحادي للدولة تم قبل ولادتها
ونظر إليه كشرط للتحالف من أجل إسقاط النظام الإمبراطوري.
هذه الحالة لم تتكرر عند العرب حال سقوط الإمبراطورية العثمانية بسبب
تدخل القوى الاستعمارية ووقوع معظم أراضي العالم العربي تحت السيطرة
الأجنبية فنشا ظرف تاريخي جديد أفضى إلى تشكل الدولة العربية القطرية ومن
ضمنها دولتي (ج.ي.د.ش) و (ج.ع.ي) ما يعني ان الفرصة التاريخية التي توفرت
لأوروبا لإقامة الدول الاتحادية لم تكن متاحة للعرب. اما اليوم وبعد مضي
ما يقارب قرن من الزمان على الدول القطرية في العالم العربي فإن التعاون
والتكامل وصولا إلى الاتحاد بينهم جميعًا او بين عدد منها على غرار
الحالة القائمة بين دولتي اليمن يدخل في إطار النموذج الثالث اتحادات
الدول (النموذج الناجح الذي نراه بين دول الاتحاد الأوروبي الذي بداء بست
دول منها ثم اخذ في التوسع إلى أن وصل إلى (27) دولة واخذ بتسمية الاتحاد
الأوروبي منذ كان مشروعًا ثم اتحاد محدودًا بين عدد من الدول إلى ان أصبح
اتحادًا لأوروبا كلها)، فلا بأس ان تسير المحاولة العربية التي يمكنها أن
تبدأ بدولتي اليمن في نفس المنحى وتأخذ بتسمية الاتحاد العربي-المقترح
ذاته الذي تقدمت به اليمن الشمالية لمؤتمر القمة العربي ممكن مناقشته
وتطوير مضامينه ويكون أساس لإعادة صياغة إعلان الاتحاد وبنفس
التسمية(الاتحاد العربي) بين الدولتين ليشكل نموذج جذاب للعرب جميعًا.
صادر بمدينة عدن
منتدى الحوار الجنوبي - الجنوبي
*(ابوسهيل2011*)
تعليقات
إرسال تعليق