وضاح.. عميد الشهداء
وضاح.. عميد
الشهداء
وأنا أحاول التقاط
قلمي لأكتب عن ذلك الشاب ذو الأربعة وعشرون ربيعاً فإن قلمي يعجز عن التعبير
والكتابة ليس لشيء إنما تخوفاً من عدم قدرتي في الإيفاء بحق ذلك الشاب الطموح
الحالم الذي عشق كل شيء جميل من حوله ولم يبخل بأي شيء في سبيل ما كان يعشقه ويحلم
به، إنه ذلك الشاب، هو الشهيد البطل وضاح حسن علي البدوي والذي من خلال معايشتي له
وجدته شاباً يكتنز صفات وسجايا أصيلة نادراً ما تجدها مجتمعه في شخصية شاب من شباب
هذا الجيل وهذه المرحلة الزمنية الرديئة.
إن انتماء الشهيد وضاح
إلى أسرة فلاحية فقيرة إلا أنها غنية بمخزون وافر من العادات والتقاليد العربية
الأصيلة وهي جزء من عادات وتقاليد وأعراف توارثتها أسرة الشهيد وتوارثها كل أبناء
ردفان عن أسلافهم الآباء والأجداد، فبالإضافة إلى انتماء البطل وضاح إلى تلك الأسرة
الأصيلة فقد كان من البديهي أن يحمل في ثنايا شخصيته الشابة كثير من الصفات
والطباع، فقد كان شاباً هادئاً دمث الأخلاق متسامحاً ودوداً رحيماً لا تفارقه
الابتسامة، يقابل كل من يتعرف عليه بسيل من الاحترام والتقدير، كما كان أيضاً شاباً
فيه من الشجاعة ما تدفعه لأن يقف وبصلابة في وجه الظلم ونصرة المظلوم ومقارعة
الظالم، كان شاباً طموحاً حالماً يكره الظلم والذل ويأبى الخنوع والانكسار، شاباً
يعشق كل ما هو جميل يحب العدل والمساواة ويعشق الحرية حد القداسة.
وما يأسف له أن الشهيد
وضاح حسن علي قد وجد نفسه منذ بلوغه سن التمييز يعيش في زمن رديء كئيب ومظلم حيث
بلغ سن العاشرة من عمره بعد أن وضعت حرب صيف 94م أوزارها في الجنوب، فبدأت عيناه
تتفتح على مرحلة سادها الظلم والجور والتعسف، مرحلة قضت على كل ما هو جميل في
الحياة فسرقت الابتسامة ونزعت الفرحة لتحل محلها حياة البؤس والشقاء، مرحلة جلبت
معها كل ما هو سيء في شتى مناحي الحياة، مرحلة كئيبة مارس خلالها الغزاة فاتحي
الجنوب بعد حرب 94م شتى صنوف القهر والإذلال والتنكيل بأبناء الجنوب وأبناء ردفان
وكان للشهيد وأسرته نصيباً من ذلك الواقع المفروض قسراً بفوهات المدافع وجنازير
الدبابات.
التحق الشهيد وضاح في
مرحلة التعليم الأساسي ثم الثانوي في حبيل جبر وبعد أن نال شهادة الثانوية العامة
وبسبب المعاناة وشظف العيش وبعد أن انسدت كل فضاءات المستقبل التي كان ينشدها فقد
قرر الشهيد وضاح اللحاق بركب الهجرة والاغتراب متجهاً إلى المملكة العربية السعودية
لعله يجد ذلك الوطن المفقود الذي ظل يبحث عنه في وطنه، تحمل عنا ومشقة التهريب في
الحدود معرضاً حياته لطلقة نارية من حرس الحدود السعودي ليتسلل إلى أراضي المملكة
بحثاً عن مستقبل يجد فيه معنى للحياة، يبحث في وطن الاغتراب عن ما سلب منه في وطنه
الأم (الجنوب)، فدامت غربة الشهيد في أراضي المملكة عاماً كامل حتى منتصف عام
2007م، وهو العام الذي انتفض فيه المارد الجنوبي ونفض الغبار من على كاهله، وكان
لهتاف الجماهير في مهرجان 7 يوليو 2007م في ساحة الحرية بخور مكسر حينما هتفوا
(بالروح بالدم نفديك يا جنوب) كان له أثره البالغ في وجدان الشهيد وضاح الذي ما كان
فيه إلا أن لبى نداء الجنوب، لبى نداء الثورة، نداء الحرية، لبى النداء مردداً
خلفهم (بالروح والدم نفديك يا جنوب) نعم لبى النداء ليعود إلى بين صفوف الجماهير من
أبناء الجنوب الذي هبوا من كل حدب وصوب خلف ثورة الجنوب السلمية، ولم يفت على
الشهيد الشاب وضاح أي فعالية أو مهرجان إلا وكان مشاركاً وبفعالية فيها، كان له
دوراً متميزاً في إنشاء جمعية الشباب والعاطلين عن العمل في مديريات ردفان وعمل
بنشاط وحيوية في الأعداد والتحضير لتنفيذ الفعاليات التي تبنتها. وخاض الكثير من
الصولات والجولات في عديد من محافظات الجنوب ليشارك أبنائها في فعالياتها السلمية،
كما أن التاريخ لن ينسى ذلك الدور المشرف للشهيد البطل وضاح أثناء المنعطفات التي
مرت بها ردفان أثناء تعرضها لأكثر من حملة عسكرية من قبل جحافل قوات الاحتلال فتجده
في مقدمة الصفوف في وجه آلة الحرب العسكرية وهو حاملاً حياته على أكفه. نعم كام
كريماً معطاء لم يبخل على كرامة ردفان وكبريائه وعزته ولم يبخل على الجنوب وعلى
ثورته وتاريخه وهويته، ولم يأتي يوماً من أيام الثورة السلمية الجنوبية ينادي فيها
المنادي إلا وكان الشهيد وضاح من أوائل الملبين لذلك النداء مردداً لبيك يا
ردفان... لبيك يا جنوب.
وبما أن الشهيد وضاح كان
مؤمناً إيماناً راسخاً بقضية شعبه في الجنوب وكان عاشقاًً حد القداسة لحرية وطنه
(الجنوب) فكان مدركاً بأن تلك الحرية التي ينشدها ومعه كل أبناء الجنوب ثمنها
باهظاً ولا بد من التضحية في سبيلها ولأنه كان شجاعاً صامداً ومقداماً وشامخاً شموخ
جبال ردفان فقد تقدم الصفوف بكل قوة وثبات ليقف أمام صخرة التاريخ وينحت اسمه بأحرف
من نور في ذلك اليوم التاريخي وتحديداً يوم 27 مايو 2009م حينما اعتلى أكتاف
الجماهير وهو مرتدياً ذلك الثوب المنقوش بعلم الجنوب ويديه مرتفعة في السماء مشيراً
بأصابعه إلى علامة النصر أو الموت. ولأن الشهيد وضاح كان مؤمناً بأن الحرية لن تأتي
إلا بالتضحية فقد كان مخلصاً للجنوب ووفياً في ما وعد به ليأتي يوم 8 يونيو 2009م
ويدفع حياته ثمناً لحرية الجنوب التي ظل يحلم بها دوماً.
كم أحسدك أيها الشهيد
البطل وضاح، نعم كم أحسدك أيها الأخ العزيز ويحسدك معي كل عشاق الحرية، نعم نحسدك
على ذلك التاريخ الذي سطرته بيديك في تلك الصورة التاريخية ودخلت فيها التاريخ من
أوسع الأبواب، نم غرير العين أيها الشهيد البطل فقد أصبحت صورتك التاريخية (طائر
الحرية) معلماً يضرب بها المثل في التضحية والفداء والذود عن الوطن، وسيأتي يوماً
تتناقل فيه الأجيال القادمة مآثر (طائر الحرية)، نعم نم غرير العين فها هم اليوم
شباب الجنوب يلبسون من بعدك الثوب المنقوش بعلم الجنوب والذي كان لك شرف السبق في
ارتدائه، نم غرير العين فنحن نعاهدك ونعاهد كل شهداء الجنوب بأنكم ستظلون أحياءً في
ذاكرتنا وذاكرة تاريخ الجنوب، ونعاهدكم بالسير قدماً في الطريق الذي سرتم فيه
وضحيتم من أجله، نم غرير العين فإنا على عهدكم سائرون .
المجد كل المجد لشهداء
الجنوب الأبطال
وعاش الجنوب حراً
أبياً شامخاً.
تعليقات
إرسال تعليق