1في محاولة لعقلنة الظاهرة القاعدية- الداعشية... نشر عن مجلة النور



في محاولة لعقلنة الظاهرة القاعدية- الداعشية...
من دون مبالغة يمكن القول إن الجماعات التكفيرية أو الإرهابية أو القاعدية أو المتشددة أو المتطرفة -على اختلاف المسميات وتوحد المسمى- تشكل إحدى أبرز الظواهر السياسية والإجتماعية في القرن الحادي والعشرين. ذلك أنها استطاعت خصوصا خلال الآونة الأخيرة فرض نفسها لاعبا رئيسا في منطقة الشرق الأوسط واستدراج الدول الكبرى إلى الإعتراف بها والتحسب لعملياتها والتنبه لمخططاتها وحشد الجيوش لمحاربتها.
وعلى خلفية هذا التغول غير المسبوق في التاريخ الحديث كثرت التحليلات والتأويلات التي حاولت مقاربة تجليات الظاهرة الداعشية - إن صح التعبير- وإرجاعها إلى جذورها، إلا أن قلة قليلة منها إن لم نقل نوادرها استطاعت الإنفصال عن المعضلة التكفيرية المستحكمة ببلادنا وعقلنتها ووضعها في سياقاتها التاريخية غير الماهوية وتجلية أصولها الحقيقية وصولا إلى الإعتراف بها من دون مواربة أو مغالاة أو تفريط أو إفراط.
وإذا أردنا تقسيم المقاربات المتعلقة بتفشي التنظيمات الإرهابية في العالمين العربي والإسلامي، يمكننا الحديث عن صنفين رئيسين من القراءات: الأول يجتهد في إسباغ الصفات الجوهرية على داعش والنصرة وغيرهما، بمعنى آخر، يريد هذا الفريق القول إن هذه الجماعات ليست إلا نسخة طبق الأصل من شخصية العرب والمسلمين، أي أننا نتحمل المسؤولية كاملة عن بروز التغول الإسلامي الذي يتوسل بالعنف الدموي والوحشي لتحقيق مآربه. وما التعابير التي يكثر استخدامها راهنا من قبيل: "كلنا داعش" إلا جزء من ذلك الجلد الذاتي المتمادي غير المبرر وغير المفهوم. والمفارقة المضحكة المبكية أن السواد الأعظم من أصحاب نظرية "داعش منا وفينا وكفى" لم يكلفوا أنفسهم فيما مضى عناء الإشتغال على حل ثقافي يجعل من العسير إن لم نقل من المستحيل بروز جماعات هوموإسلاميكسية لا هم لها إلا التقتيل العشوائي والترهيب والإقصاء.
أما الفريق الآخر فيميل إلى تصوير التكفيريين وكأنهم صناعة غربية بامتياز، أي أن استخبارات الدول الكبرى هي التي أسست ومولت وجندت وحرضت وسهلت وفجرت الساحات، بل إن البعض يذهب بعيدا في حياكة نظرية المؤامرة الكاملة المتكاملة حتى يصل به الأمر حد التخريف الذي لا توازيه إلا الهلوسة الدائرة دائما وأبدا في فلك الماسونية وأفعالها الشريرة.
 ونحن هنا إذ نورد سرديات الفريقين فإننا لا نستهدف التشنيع عليهما ولا نسعد بتجريحهما، إنما نحاول عقلانيا وديمقراطيا الدفع باتجاه فهم متطور للواقع الذي يحاصرنا ويضغط علينا ولا يفسح لنا المجال لالتقاط أنفاسنا حتى. في البداية لا بد من القول إن أسبابا تاريخية وسياسية وإجتماعية تقف خلف ظاهرة التطرف الديني المستفحلة في مجتمعاتنا، وبالتالي فمن الغلط الكبير حصر أثافي هذه الظاهرة في قالب واحد دون غيره، صحيح أن نسب تأثير تلك العوامل والأسباب لا يمكن أن تكون متساوية فيما بينها، لكن يبقى ثابتا أن لكل منها فعله الخاص الذي لا يجوز تجاهله أو القفز عليه.
على رأس قائمة العوامل سالفة الذكر يظهر العنصر الديني بمعناه التاريخي لا الماهوي فاعلا رئيسا في صناعة المتشددين، وفي هذا المقام ثمة إطاران بحثيان يبدو ضروريا وأوليا التطرق إليهما، أحدهما متصل بالدين الإسلامي الذي تشكل عبر العصور منذ وفاة النبي محمد، والآخر مرتبط بحالة خاصة متمايزة أسهم السلطان السياسي في تثبيتها وتطويرها وتوسيع رقعة فاعليتها، ونقصد بذلك عقيدة الشيخين أحمد بن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب.
 لكن قبل الغوص في عباب هذين المبحثين نجد محتمة علينا الإشارة إلى لغط النظرية التي تجعل العنف مرتبطا حصرا بالإسلام سواء كان محمديا أم أمويا أم عباسيا أم وهابيا، إذ إن الوقائع والحقائق التاريخية تثبت أن أتباع جميع الديانات السماوية لطالما اتخذوا العنف مطية لبلوغ أغراضهم السياسية، راجعوا تاريخ أوروبا قبيل الثورة الصناعية، أنظروا حجم المجازر التي ارتكبها الأوروبيون تحت ستار القيم المسيحية، تمششوا فداحة فظائعهم وبشاعتها بحق اليهود والوثنيين والمسلمين والملحدين وحتى المسيحيين المخالفين لطرائقهم، عددوا كم من الرؤوس احتزت بسكاكينهم وكم من البطون بقرت بأسلحتهم وكم من الجلود قشرت بمدياتهم وكم من الأجساد احترقت في أفرانهم وكم من الجثث سحلت على ترابهم.
ثم انظروا أسفار اليهود، ألا ترونها مترعة بشتى ألوان الجرائم؟ ألا تلفونها متخمة بأقذع أصناف الإنتهاكات؟ ألا تتحسسون بين طياتها استحالة الآيات والمفاهيم الدينية سيفا مسلطا على رقاب العباد وحَرّاثة مسمومة في أنحاء البلاد؟ نحن لا نسعى في تبرئة الجماعات التكفيرية أو التقليل من أفعالها أو إعذارها أو الإصغاء إلى ضمائرها المتلوثة بالدماء، إنما نريد القول إن التجاء شريحة من المسلمين إلى القوة العمياء على طريق امتلاك السلطة والسيادة ليس نادرة الدنيا، بل هو نموذج مما يمكن أن يفرزه التلاعب بالدين وتقييده وتسخيره خدمة لمصالح دنيوية وتحويله إلى آلة موت ودمار.
وقداسة ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان...
 وبالعودة إلى العنصر الديني الذي ابتدأنا الحديث عنه وقسمناه إلى مبحثين رئيسيين، تتبدى أمامنا جملة من الحقائق التي آن للمسلمين الإعتراف بها والعمل على معالجتها توطئة لنهضة شاملة طال عليها الزمن. في مقدمة هذه الحقائق لا مناص من الجزم بأن الإسلام الذي نعرفه اليوم هو غيره الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله قبل مئات العقود، بتعبير أوضح، يبدو الدين الإسلامي المعاصر متشكلا عبر سيرورة تاريخية تعددت أحداثها وتنوعت شخصياتها وتشعبت العوامل الفاعلة فيها، وبالنظر إلى جملة الموروثات الإسلامية يمكن تقديم أفعال الخلفاء والأمراء والولاة وسيرهم على غيرها كأحد أبرز التجليات التي ينفعل بها وجدان المسلمين ويتفاعل معها.
ولا نقصد بهذا التفاعل التطلع العقلاني إلى محمولات التاريخ ومحاورتها وغربلتها والإقتصار منها على ما ينفع الأمة في حاضرها، إنما نقصد بذلك تعزير سير الخلفاء وتوقيرها وتعظيمها وتقديسها وتحريم المساس بها حتى غدت عدل القرآن وصنوه الذي لا يفترق عنه. علما أن تلك السير تعج بما لا يقبله المنطق ولا يرضاه الكتاب ولا يبتغيه الرسول ولا تحمده الأخلاق الكريمة. وعليه فلا مبرر على الإطلاق لهذا العسف والإعتباط في التعاطي مع ما كسبته أمة النبي محمد من بعده، وأية فائدة جناها ويجنيها أهل الإسلام من وضع أفعال الصحابة والتابعين موضع المحرمات والمقدسات غير القابلة للتنازل والإستبعاد؟
إنه ما من ثمار حصدتها الأمة من فعل التقديس الأخرق إلا أن تلبست شرذمة من أبنائها لبوس الأمراء وشهرت سيفهم ورفعت رايتهم وراحت تضرب خبط عشواء. أيها العقلاء، وما كان محمد إلا بشرا مثلنا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فعلام تعطون أصحابه ما لم يعطه الله؟ إن ما قاله العلامة الجليل إبن أبي الحديد المعتزلي في كيفية التعامل مع ما ورثناه من العصور السالفة يمكن اعتباره منهجا قويما لا مندوحة للمسلمين عنه، هكذا يدعو الشيخ المنبوذ من أمته - ويا للأسف- إلى التسليم لحقيقة ساطعة مفادها بأن الصحابة بشر مثلنا، نعم بشر مثلنا، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. وبالتالي، فلننزل كل ما اجترحه الأولون في ميزان الوحي والعقل والحكمة والأدب والفاعلية الحضارية ولنحكم على هذا الأساس، أما أن نعطل عقولنا ونعطب أحاسيسنا ونجتر مآثم أسلافنا إنطلاقا من فضائل ومكارم جوهرية بعضها منزوع من سياقه وآخرها مدسوس من رأسه، فهذا مما لا يمكن قبوله أو التغاضي عنه أو السكوت عليه.
إن قراءة واعية للتاريخ الإسلامي من شأنها تخليص الشخصية الإسلامية من متناقضاتها والنأي بها عن قسوة عمياء لم تستهدف إلا توسيع رقعة الدولة بعيدا عن أية مهام رسالية، ولنذهب بعيدا في صراحة الطرح، إن الكثير مما تعج به سير شخصيات أمثال عمر بن بن الخطاب وخالد بن الوليد ومعاوية بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف وزياد بن أبيه وغيرهم الكثيرين لهو النموذج الواضح والمصداق الحي لما ينبغي علينا رفضه ومحاصرته وصولا إلى عزله. ذلك أن إحاطة أصحابه بهالة طهرانية يحرم الإقتراب منها لهو عامل رئيس وأولي في إنتاج متأسلمين لا هم لهم إلا السيادة وتوسيع سلطة اللاشكل أو الغول ولو كلفهم الأمر قطع الرؤوس واغتصاب النساء وسبيهن ونهش القلوب والأكباد.
عندما يستحيل الإسلام طوطما...
 وإلى جانب التنطع والعصبية في قراءة الإرث الإسلامي تبرز وثنية النص الفقهي عنصرا مساهما في تحجير عقول المسلمين وقلوبهم، إذ إن الأحاديث والروايات التي تكاثرت على مر مئات العقود اُدخلت في إطار مسلمات ومقدسات لا يجوز التشكيك فيها أو التقليل من أهميتها أو الطعن في صحتها. وما المبالغة في تقدير الصحاح الأربعة وتعظيمها والإصرار على الأخذ بكل ما جاء فيها بمعزل عما اعتراها من تحريف وما شابها من تخريف إلا دليل على ذلك.
ألا يعتبر صحيح البخاري في معظم أنحاء العالم الإسلامي كتابا شبه معصوم تفترض بأهل الإسلام العودة إليه في كل صغيرة وكبيرة؟ ألا يُعِده الكثيرون ثاني أقدس وأهم الكتب الإسلامية بعد القرآن؟ نعم، هذه هي نظرة المسلمين للنصوص الفقهية التي علقت بها الكثير من الرواسب والطفيليات والأفكار الهدامة، حتى غدا الفقه المتوارث لا الوحي المحفوظ عماد ديننا الرئيس. لقد أنتج هذا التصنيم غير المحدود أشبه بروبوتات إسلامية لا تتقدم قيد أنملة إلا بناء على ما حشيت به رؤوسها من فتاوى وما تكبلت به وجداناتها من قيود وما تغلفت به آلات منطقها من طبقات كلسية استعصت على كل عوامل التعرية.
 وفي الحديث عن المؤثرات الداخلية الفاعلة في بناء الشخصية التكفيرية القتالة تتمظهر أمامنا معضلة ثالثة لا تقل خطورة عن سابقاتها، إنها معضلة الرفض الأعشى لكل أنواع الوسائط الحديثة والتشبث بأهداف معقدة وملتبكة وعصية على الفهم بمعزل عن المناهج الطبيعية والتقنية الواجب اتباعها. باختصار، يريد المسلمون سيادة الإسلام، أي إسلام هو هذا وكيف يمكننا تعميمه؟ لا إجابات واضحة، كل ما يمكن أن يقدمه الطامحون إلى الخلافة تعريف مضطرب للدين يجمع بين الروحانية والعقل والأخلاق والقوة وسلطة الدولة والأولى والآخرة والفرد والمجتمع والعبادات والمعاملات والأرض والسماء والكون بجميع معالمه، طيب، لا مانع من أن يكون الإسلام جامعا لذلك بقده وقديده لكن على أي أساس وفي أي قالب ووفق أي تقسيم واستنادا إلى أية هيكلية؟ لا شيء، المهم أن الغاية محددة حتى لو كانت ملتبسة ومرتبكة وغير واضحة الأبعاد.
 وعلى فرض أنها قابلة للتحقق من دون عقلنة وتشكيل ونفاذ إلى العقول والقلوب فهل يمكن بلوغها بعيدا عن السبل المنطقية التي يفترض بأصحاب الألباب سلوكها؟ إن التشدد في نبذ جميع ما أفرزته الحداثة وما طوره العقل البشري تحت شعار الحفاظ على سنة السلف الصالح لهو الشذوذ الذي  لم يسفر فيما مضى إلا عن مزيد من العزلة والعدائية والإحباط والهزائم، ولن يسفر في حال استمراره إلا عن هذه النتائج باهظة الثمن الفردي والإجتماعي. وإننا إذ ندين التطلع الأهوج إلى عمومية سياسية وإجتماعية لا تُستنبت شرعيا ولا تتطور طبيعيا ولا تنمو تلقائيا، فإننا لا نرى عوائق حائلة دون الأخذ بمتطلبات الحياة المعاصرة على المستويات كافة، ذلك أن الإسلام بطبيعته دين جامع للمرونة والخلود وقابلية الأخذ والعطاء، فكيف يستعصي على المسلمين التعامل مع ركب الحضارة والمدنية لولا أنهم حرصوا على قشور ليست من الدين إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه؟!
وهابيو الأمة... أرباب التضليل...
ومن ضمن العناصر التي يجب إحصاؤها في استقصاء حقيقة الظاهرة التكفيرية لا يمكن لنا إغفال التبعثر الخطير وغير المسبوق المتحكم بالمؤسسة الإسلامية المعاصرة إن جاز الحديث عن مؤسسة أصلا، فلا مرجعية إسلامية مستقلة موحدة منقطعة عن السلطان السياسي ومحمية من تطفل الهمج الرعاع بمقدور المسلمين العودة إليها وتحكيمها والإحتكام إلى آرائها وفتاواها، بل كل ما نراه اليوم دكاكين متفرقة وبسطات متشعبة وأسواق منفلتة يكثر فيها الدجالون والكذابون على الله ورسوله والمتعيشون والمتملقون والمتذبذبون وعباد المال والجاه وموقعو صكوك الغفران وبياعو الوهم وأرباب التضليل، حتى غدا الفقه وخصوصا فقه الجهاد مزادا مفتوحا لا يترقى فيه إلا من يثبت قدرته الفائقة على التلاعب بالغرائز وإثارة النعرات وتغذية الرجعية والتماهي مع الميول البدائية وتربية التوحش وتكثير المتغولين.
 وفي معرض تحليل العوامل المتسببة على نحو مباشر وغير مباشر في تشكيل عقول التكفيريين ووجداناتهم وأفعالهم يظهر امتطاء الدين في المضمار السياسي محركا خطيرا ومباشرا وفعالا ومجربا وذا قدرة بالغة على تسكيت الناس أو تمويتهم أو تفتينهم أو الدفع بهم إلى منزلقات الكراهية والتطرف والقتل العشوائي. هذا ليس مبالغة أو تعنتا أو إصرارا على توصيل ما لا يمكن توصيله إنما حقيقة ساطعة لا يفتأ التاريخان القديم والحديث يقدمان عليها الشواهد تلو الشواهد والأدلة تترى.
وما صور الإستغلال التي حفلت بها حقبة الأمويين إلا بعض من تلك الأدلة، ألم يتخذ بنو أمية عقيدة الجبر حصان طروادة وستارا يتلطون خلفه لشرعنة التسلط والتوريث وقتل أولاد الأنبياء وهضم الحقوق وترهيب الناس ومحق شخصيتهم ومسخ عقولهم؟ ألم يجندوا جيشا من المدسوسين والوضاعين والمتملقين ليحاربوا خصومهم السياسيين بالأحاديث المكذوبة والروايات المغلوطة والفضائل المختلقة؟ وليس الأمر مقتصرا على الأمويين حصرا، إنما نورد نموذجهم كونه الأفظع والأوضح والأفحش في عصور الإسلام السالفة، أما في العصر الحديث فلا مصداق حيا بمقدوره تجسيد التلاعب بالدين بمختلف وجوهه وشتى أبعاده أكثر من التحالف الديني - السياسي الحاكم في المملكة السعودية، هنا في بلاد الحرمين طور الشيخان أحمد بن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب نسخة دينية لا نغالي إن قلنا إنها اجترت كل موبقات التاريخ الإسلامي وقولبتها وألبستها لبوس الطهارة والقدسية وأنتجتها على شكل منظومة شاملة متكاملة يعم عسفها كل جوانب الحياة.
 فمن إعطاب مفهوم التوحيد الذي جاء به محمد بن عبد الله إلى تعطيل فاعلية الإسلام وقدرته على الجمع والإحتضان والتسامح إلى تضييق السبل الإلهية وحصرها بطريق واحدة ضيقة مظلمة موحشة يصعب على سالكها الإستئناس بكدحه حتى، إلى الإسراف في التفسيق والتكفير في كل صغيرة وكبيرة واستسهال التشنيع على إيمان المسلمين والتزامهم وإخلاصهم لمجرد ممارستهم طقوسا دينية تسكن إليها قلوبهم وتطمئن بها نفوسهم، إلى تكريه المؤمنين بعضهم ببعض وزرع الشقاق بينهم ودفعهم إلى التقاتل وحضهم على سفك الدماء وإزهاق الأرواح وتشويه الحياة وتحويلها إلى أتون عنف وبغضاء ونيران لا تبقي ولا تذر، إلى احتقار المرأة وتقزيم ملكاتها وقدراتها وسلب حقوقها السياسية والإجتماعية وتصويرها بصورة الكائن الضعيف العاجز المهيض الجناح وغير القادر إلا على الإمتاع والتوليد، إلى معاداة الأقليات الدينية والعرقية وتشويهها واستحلال حرمها وانتهاك خصوصياتها ونزع الصفات الإنسانية عنها والتحريض على إهانتها وامتهان كرامتها وإذلالها وترهيبها والنيل منها، كلها معالم وتجليات سرعان ما تطرق ذهن المتتبع لسيرورة التاريخ بمجرد اطلاعه على الأفكار الوهابية وإفرازاتها الخطيرة في الجزيرة العربية والمنطقة المشرقية عموما.
 ولو اقتصر الأمر على تلبيس وتضليل وتشويه وتحريف وتكثير غشاوات وإشاعة ظلمات لكان هينا، لكن المصيبة العظمى والطامة الكبرى أن هذه العقيدة الهجينة الإعتباطية التعسفية المتمردة على حكم العقل تحولت إلى حارس أمين لسلطان سياسي لا هم له إلا التسيد الباطل والتزعم الأحمق والتقدم الأخرق، بل يمكننا القول إن الفكر الوهابي غدا شرطا أوليا وضروريا وحيويا لاستمرار المشروع السعودي، أي أن فلسفة حكم آل سعود متعادلة تماما مع عقيدة محمد بن عبد الوهاب، متقيدة بها، مساوية لها، عقيمة من دونها، ميتة بمعزل عنها، غير فاعلة إلا بعدتها وعتادها وعديدها. وبالتالي فلا إشكالية من إشكاليات الإستبداد والتسلط والتملك والتأمر والتخريب والتفجير والتدمير والتفتين واستباحة الأوطان إلا وتجد لها سبيلا إلى الحل في أسفار الوهابيين.
بمعنى أوضح، لا تتكبد السلالة الحاكمة في بلاد الحرمين كبير عناء في البحث عن وقود فكري ونفسي وغرائزي تغذي به حروبها، إذ إن الطعم الوهابي جاهز دائما وأبدا لاصطياد الآلاف من الجاهلين المتنسكين الذين انطلت عليهم حيلة استرداد حلم الخلافة وإقامة الدولة الإسلامية. وما موجة الهيجان الطائفي والمذهبي والفتاوى الهوجاء والدعوات العمياء والغيرة المقيتة والتجييش البغيض، تلك الموجة التي رافقت الأزمة السورية منذ اندلاعها عام ألفين وأحد عشر وأسهمت في احتشاد "الشباب المجاهد" من مختلف أصقاع الأرض في بلاد الشام لمحاربة طواحين الهواء في معركة دونكيشوتية بائسة، ما هي إلا نموذج صارخ مما أنتجه التحالف السعودي الوهابي منذ تشكل نواته الأولى على أيدي محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب.
والذي يحز في النفس ويملأها مرارة ويشحنها غيظا ويُجرَعها نَغَب الحسرة أنفاسا أن مشعلي تلك الحروب وأربابها ومموليها والمتورطين من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم فيها لا يتقيدون ولو بمقياس شعرة بالشعارات التي يؤذنون في الناس بها ويأتون بهم من كل فج عميق وعلى كل ضامر تحت ظلالها، بل إنهم لا يتورعون عن الإتيان بكل ما يخالف ماهيتها ويناقض جوهرها وينسف أساساتها، والفضل في دوام هذه المفارقات وطول أعمارها يعود لحراس الفضيلة أنفسهم الذين لا أوسع من عباءاتهم ولا أكثر من يافطاتهم لتغطية النفاق وتمويه الكذب والتستر على الموبقات، وما الحسرة كل الحسرة إلا على أولئك الضلال الجهال الذين ابتغوا الدار الآخرة فأخطأوها وأضاعوا في طريقهم نصيبهم من الدنيا، متناسين أنه ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا. في خلاصة القول، يستبين لنا التأثير الكارثي لجعل الدين قناعا وفزاعة وقطعة حلوى لذيذة تستخدمها الديكتاتوريات لترغيب صغار العقول أو ترهيبهم أو استغلالهم في المزادات السياسية.
أن يمسخوا شخصيتك ويشوهوا إنسانيتك...
 وبالإنتقال من العوامل الدينية والسياسية الفاعلة في إنتاج الظاهرة التكفيرية إلى تلك الإجتماعية التي هي واقعا نتيجة تغول سياسي مهول اجتمع عليه الغرب الإستعماري والحكام المحنطون، تظهر على مرأى إدراكنا معضلات متقادمة كان لها وما يزال دور لا يستهان به في دفع الشبان المسلمين نحو مستنقع التحارب والتباغض والفتنة المتكاثرة كقطع الليل المظلم، أملا -ربما- في الوصول إلى عالم يعتبرونه أفضل وأمثل وأقدر على مواجهة الآخر الأجنبي الذي أثبت تفوقه في المجالات كافة. إن إمعان القوى الغربية في تفخيخ المنطقة العربية والإسلامية منذ ما قبل عشرينيات القرن الماضي، وإصرارها على حشو عالمنا بشتى أنواع المواد المسممة، وسعيها في مسخ شخصيتنا وتمزيق هويتنا وتفتيت أوطاننا ونهب خيراتنا وتحويلنا إلى معترك لمختلف وجوه الجاسوسية، كلها عناصر أفقدت المسلمين الشعور بالحرية والكرامة وجعلتهم أسرى السخط المتعاظم على عالم غير عادل، عالم لم يتورع عن طرد شعب بأكمله من أرضه التي هي حق طبيعي وأولي له ليبني على أنقاضها مستعمرة تحرس مصالحه الدنيئة في بلادنا، عالم يمتلك من الخسة والنفاق والوحشية ما يكفي ليشكل درعا حاميا وحصنا منيعا وسدا عظيما لديكتاتوريي وانتهازيي وعملاء وخونة العالمين العربي والإسلامي، عالم سرعان ما ينفض يديه من أوعية الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات المدنية والسياسية والإجتماعية بمجرد أن يقترب الموس من مقامات الملوك والأمراء والسلاطين ورؤساء الزمن الرديء.
نعم هذا هو الغرب المتحضر الذي سبقنا بأشواط في العلوم وتطبيقاتها والعمل وتشعباته وأنماط الحكم وأساليب الحياة، يريد لنا أن نبقى هكذا، على ما نحن عليه، عالم ثالث - كما يقولون- يعج بالتخلف والأمية والرجعية والأوهام والهلوسة الدينية والتقاتل البيني والخرافات. وإلى جانبه في إرادته تلك حكام مستبدون تفننوا في ترويض الشعوب وهدر حقوقها وتدجين عقولها وتمويت أحاسيسها والتضييق عليها وتكميم أفواهها وخنق أنفاسها وإذلالها في عظائم الأمور وسفاسفها، وعليه فليس مستغربا إن ولدت هذه التراكمات السلبية جميعها شعورا بالرغبة في الإنعتاق ولو انتحارا ونحرا، وإرادة في التخلص من موروث القهر بالقهر نفسه، بل بما هو أشد منه ظلامية وبشاعة واستخفافا بالحياة.
وفي نهاية مطافنا حول الأسباب المتشاركة في صناعة التكفير لا بد أن نعرج على دور الإستخبارات الغربية على هذا الصعيد، وهو دور لا يمكن تجاوزه أو النأي عنه أو التقليل من فاعليته، إذ إنه أثبت قدرته على تجنيد ألوف مؤلفة من الرجال الشرهين إلى معاقبة الناس بوسائل الله المطلق واللامحدود وعلى ذنب لم تتضح ماهيته بعد. ولنا في المجاهدين العرب الذين زحفوا إلى أفغانستان إبان المد الأحمر وفي الإنغماسيين المتعددي الجنسيات الذين شدوا الرحال إلى سوريا إبان الربيع المشيخي الخليجي، لنا في هذين النموذجين خير دليل وأفضل مصداق على تورط استخبارات الدول الغربية في تربية الوحش المجنون الذي يتقاطرون اليوم من كل أصقاع الأرض لمحاربته.
 إن الحقائق التاريخية والوقائع المعاصرة تثبت أن أجهزة الغرب المتغول والعثمانية الحديثة المتجملة بطيلسان الأوروبيين شرعت الأبواب واسعة أمام حملات منظمة ومكشوفة ومكثفة لتغذية المتشددين القدامى وحديثي العهد بالتحجر، بالأموال والسلاح والعنصر البشري والدعم اللوجستي والتموينات، حتى غدت هذه الجماعات البدائية والمحصورة والمنحشرة في الكهوف والجبال والمغاور تنظيمات خارقة تجتاح وتدمر وترهب وتحتل أراض في غضون ساعات وتقيم حكمها وترفع رايتها وتسوس الناس بالجاهلية تحت عين الغربيين وشركائهم في لعبة الموت. كلهم اكتتب في حسابات  داعش، كلهم أراد الإستثمار في داعش وفروعه وأذرعه ونظائره، وكلهم رسم خطوطه السياسية والإستراتيجية على خرائط التكفير والتذبيح اللذين لا يشبعان من النجيع.
أطلقوا الإسلام من قمقمه...
 بالنتيجة، تبدو الظاهرة القاعدية الداعشية نتاج جملة من المؤثرات التي اشترك أطراف كثيرون في حبكها وإيقاع أولئك الذين لم يلجأوا إلى ركن وثيق في شراكها، وإننا إذ حاولنا الإحاطة بتلك المؤثرات ومقاربتها من النواحي كافة فإننا لا ندعي أن قراءتنا لامست مختلف جوانب المشكلة، إنما أقحمت نفسها في معترك التدرب العقلي عساها تضع لَبِنة على طريق تنوير التفكير وتعزيز النباهة وإحياء الدراية الفردية والإجتماعية وصعق الذات المخبولة وهز النفس المُنوّمة والعودة إلى ما ينبغي الركون إليه والإستمرار فيه والإستقرار عليه.
 أيها المسلمون، لقد حولنا الإسلام بأيدينا إلى وثن نعكف على عبادته ليل نهار ونشد عصبياتنا من أجله ونستميت في سبيل نصبه وتركيع الناس أمامه، لقد أفقدنا ديننا روحه العاشقة وفؤاده السليم ونفسه المطمئنة ودينامياته العقلية المتحررة والسامية والنابضة بحياة لا تنفد، وعليه فلا شفاء لدائنا ولا رافع لمصيبتنا ولا حل لمعضلتنا إلا بتحرير الإسلام وإطلاقه من قمقمه ونزع الصفائح الصدئة عنه وإطلاقه إلى أجواز الحضارة عزيزا كريما سيدا حرا مستقلا صاحب إرادة وقرار، يُعمّر ولا يهدم، يبني ولا يخرب، يتودد ولا يستكبر، يرفع العقل ولا يحط به أو يَعطِبه، يسمو بالأحاسيس والوجدان ولا يهبط بها إلى أسفل سافلين، يحيي الناس جميعا ولا يقتل الناس جميعا.
كما أنه لا علاجا جذريا للسرطان التكفيري إلا ببناء نظام سياسي يحمي سيادتنا ويصون خيراتنا ويشغل أيادينا العاملة ويستثمر أدمغتنا ويضمن حرياتنا ويوَفّينا أجورنا ولا يتعدى حقوقنا ويقينا التبعية على اختلاف أنواعها ويرتفع بشخصيتنا السياسية والإقتصادية والثقافية حتى تحجز لها مكانها متقدما في مضمار الفاعلية الحضارية. نعم، حرروا الإسلام، أعيدوا للناس شرفهم الذي أريقت مياهه على مر عقود، وليكن اجتماعكم على دحر الإستعمار والإحتلال بوجوهه كافة لا على الحقد السياسي والعصبية المعولمة وتجزيء المجزأ وتفتيت المفتت وإحالة الأوطان مشاعا يسرح فيه كل لص متمدن وكل خفاش طارئ وكل جاهل لَبئس ما يأمره به إيمانه إن كان من المؤمنين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شهداء الجنوب محافظة لحج ---

مسيرة الزحف الى عدن --- ردفان